فتاة ينم مظهرها عن ورعها
لما انتهيت من أداء صلاة العصر رأيتها في المسجد بعد شهرين أو أكثر وهي تصلي، فظننت أنها هي الفتاة التي كان لي عهد بها فيما مضى من الأيام، ولكنني لم أكن متأكدا تمام التأكد، فانصرفت إلى شقتي، فأكد لي أحد زملائي في الشقة أنها هي التي كنت عهدتها من قبل.
فما إن مست كلمات زميلي أذني حتى بدت لي الأيام الخالية بما فيها من أحداث تتعلق بها، وتذكرت كل ما كان قد أصبح من ذكريات الماضي المهجور، فالقصة هي أنني في يوم من الأيام وبعد أن فرغت من صلاة المغرب رأيت في الطابق الأول من المسجد فتاة تتوضأ وهي تخضع للحجاب تمام الخضوع وتوجه وجهها للجدار بحيث لا يمكن لأحد المارين بها أن يرى وجهها، فاستغربت من هذا المنظر كثيرا، وقلت في نفسي: "من هذه الفتاة؟ وما الذي تفعله هنا في المسجد؟" ثم تركتها وشأنها، وخرجت من المسجد.
وبعد ذلك رأيتها تجلس بجانب المسجد تبيع بضائع مثل القلنسوة والمنديل وما إلى ذلك، فتأسفت على ذلك كثيرا; لا لأنها فتاة تضطر إلى الجلوس في الشارع لتكسب أقواتها وأقوات أسرتها، فإن هناك كثيرا من النساء والفتيات يجلسن في الشوارع ويكسبن أقواتهن وأقوات عائلاتهن، وإنما كنت أتاسف على أن فتاة ترتدي الحجاب وتحافظ على الصلوات هي مضطرة إلى الجلوس في الشارع لكسب قوتها وقوت أسرتها.
فكان القدر قد ساقها إلى هذه المسائل المضنية، وكان يمكنها أن تتكفف أمام الناس، ولكنها آثرت أن تسترزق من عرق جبينها على أن تمد كفها، والأهم من كل ذلك أن أوضاعها الصعبة لم تبعدها عن خالقها، بل استمرت في إطاعتها لربها، فلم تتوقف عن لبس الحجاب ولم تترك الحفاظ على الصلوات، وهذا ما يزيد قدرها في نظري.
ومن عادتها في أداء الصلاة في المسجد أنها لا تدخل المسجد إلا إذا خلا من ازدحام الناس، فتؤدي صلاتها تاركة بضائعها في الشارع متوكلة على الله تمام التوكل.
وفي اليوم الأول من شهر رمضان المبارك حينما كنت أدخل المسجد لأداء صلاة المغرب رأيتها جالسة بجانب المسجد كعادتها كل يوم، فآلمني ذلك كثيرا، وقالت لي نفسي: "إن مائدتنا واسعة مملوءة بألوان وأنواع من الأطعمة اللذيذة الشهية، وهذه الفتاة المسكينة البائسة تجلس في الشارع بعيدة عن أسرتها لكسب قوت يومها."
ثم نشأ في ذهني سؤال: "أين تلك المنظمات التي تجمع تبرعات المسلمين وتنفقها في أشياء لا جدوى منها، أليس من أهدافها مساعدة أمثال هذه الفتاة؟ أليس للبطن أهمية في نظر أعضائها؟ أليس البطن مسألة كبيرة عندهم؟ ولكنني لم أدر ماذا أقول وماذا أفعل، فإنني لا أزال مكتوف اليدين، ولا أستطيع أن أفعل شيئا لهذه الفتاة وأمثالها.
هذا وفي جانب آخر كلما رأيت هذه الفتاة تجلس في الشارع تذكرت بعض زملائي الذين يقضون أوقاتهم في ما لا يعنيهم في مستقبلهم، ويعيشون الخيال، ويتمنون على الله الأماني، ويتوكلون عليه دون أن يختاروا أسبابا مادية مناسبة، وأفكر حينئذ في أنه إذا كان كسب الرزق سهلا وميسورا إلى هذه الدرجة فلماذا تجلس هذه الفتاة في الشارع بينما ينم مظهرها عن أنها من أهل الورع والتقوى، وعندئذ يبرز لي جليا أن المستقبل ليس بالآمال، وإنما هو بالأعمال، وإن لم نأخذ مستقبلنا بعين الاعتبار ولم نبذل كل ما بوسعنا في سبيل تحسينه فقد نضطر يوما من الأيام إلى الجلوس في الشارع لكسب قوت يومنا فضلا عن أن نقوم في حياتنا بأعمال جليلة تذكر في المستقبل.
تعليقات
إرسال تعليق
Please do not enter any spam links in the comment box.