تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها


إن اللغة العربية لغة حية خالدة ولغة فذة فريدة، ولها مكانة مرموقة ومنزلة رفيعة في الإسلام، ويرجع تاريخها إلى اللغات السامية التي كان ينطق بها العرب قديماً في شبه جزيرة العرب الواقعة في الجانب الغربي من قارة آسيا، وعم صيتها وشهرتها في الآفاق بعد مجيء الإسلام، وأصبحت الآن واحدة من اللغات العالمية المنبسطة تخاطباً وحواراً في أرجاء العالم كله شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وحازت مكانة رسمية في كثير من البلدان الإسلامية بالإضافة إلى كونها إحدى اللغات الرسمية للأمم المتحدة، ويعتبر الثامن عشر من شهر ديسمبر هو اليوم العالمي لهذه اللغة، ويتم الاحتفال به كل عام; وذلك لأنه هو اليوم الذي اتخذت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1973 قرارها التاريخي بأن تكون اللغة العربية لغة رسمية سادسة في المنظمة. 


وقد نالت هذه اللغة الكريمة حظاً أوفر من الإعجاب والقبول من بين سائر اللغات العالمية الحية الخالدة لكونها من أغزر اللغات مادة لغوية، وأروعها أدباً، وأعذبها منطقاً، وأعمقها تأثيراً، ومما تتميز به عن سائر اللغات أنها لغة إسلامية باقية ولغة قرآنية خالدة، وهي اللغة المقدسة التي يتخاطب بها أصحاب الجنة فيما بينهم، وقد جعلها الله عز وجل لغة حية خالدة من بين سائر اللغات العالمية باختياره لها لكتابه المقدس ورسالته السماوية ودعوته الحقة، وهي مفتاح كنوز الكتاب والسنة، ومصادر ومراجع جميع العلوم الإسلامية، ولا يمكن فهم الكتاب والسنة بدون معرفتها والتمهر فيها.


وأما الهند فهي تعرف هذه اللغة من قديم الزمان حتى من قبل وصول الإسلام إليها، ومنذ ذلك الحين لا تزال تشهد تزايداً كبيراً في انتشارها عن طريق تدريسها في المدارس الإسلامية و المعاهد الدينية في كافة أرجاء الهند، حتى بدأت في يومنا هذا عدد من الجامعات الهندية تهتم بتعليمها و تدريسها.
وبما أن موضوع هذا المقال هو "تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها" فأنا أود أن أقدم لك فيه ما بذلته من جهود، وما واجهته من مصاعب في سبيل تعلم هذه اللغة.


فانتظمت بعد إتمام حفظ القرآن الكريم في معهد دار العلوم ندوة العلماء بلكناؤ (الهند) لتلقي دروسي الثانوية، وأمضيت فيه خمس سنوات كاملة قرأت خلالها عديداً من كتب النحو والصرف والأدب، كـ "شرح قطر الندى وبل الصدى" و "شرح شذور الذهب" في فن النحو، و "شذا العرف" في فن الصرف، و "القراءة الراشدة" للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي، و "منثورات من أدب العرب" للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي في فن الأدب، ثم التحقت بدار العلوم ندوة العلماء لمواصلة دراساتي العالية، فقرأت هنا كلا المجلدين من كتاب "مختارات من أدب العرب" للشيخ أبي الحسن علي الحسني الندوي في فن الأدب، و "تاريخ الأدب العربي" للشيخ محمد الرابع الحسني الندوي و "البلاغة الواضحة، ولكنني أقول - مع الأسف الشديد - إنني - على الرغم من قراءة جميع هذه الكتب القيمة - لم أستطع أن أكسب من النبوغ والبراعة في اللغة العربية ما كنت أتطلع إليه حتى نهاية الدراسات العالية، وليست هذه الحال مقصورة علي إذ هي أيضاً تشمل كمية كبيرة من الطلاب ممن تخرجوا في المدارس الدينية، وأما الذين لهم شيء من القدرة على هذه اللغة فهم يعدون على الأصابع.


ويمكن أن يكون وراء ذلك أسباب كثيرة لا يسع ذكرها هذه العجالة، وأنا أيضاً لا أريد أن أدخل تفاصيلها، إلا أن السبب الرئيسي في ذلك يرجع - فيما أعتقد - إلى أن الكتب التي أدرجت في المقررات الدراسية لندوة العلماء في عدد كبير لا يمكن أحداً من الطلاب أن يستوعبه إلا بعد جهد جهيد ومشقة طويلة.


والسبب الثاني في ذلك - كما أرى - هو أن معظم المعلمين يكتفون - على العموم - بترجمة النصوص الأدبية من الشعر والنثر من اللغة العربية إلى اللغة الأردية دون أن يشيروا للطلاب إلى ما يرد فيها من تعبيرات جديدة وجمل جميلة، ولا أرضى كذلك بالأسلوب المعاصر السائد في تعليم قواعد النحو والصرف، فإن المعلمين يقتصرون - في أغلب الأحيان - على نقل نصوص كتب النحو والصرف من اللغة العربية إلى اللغة الأردية، والطلاب يحفظون النصوص بأكملها كحفظ القرآن الكريم، ويكتبونها في دفاتر الامتحان، ويحسبون أنهم حققوا نجاحاً باهراً، ولكن ذلك مما لا أرضى به أبداً، فإن قواعد النحو والصرف ليست للحفظ عن ظهر قلب، وإنما هي للتطبيق، وأجد معظم الطلاب عاجزين عن ذلك حينما يقرؤون أو يكتبون أو يتكلمون، وإن زعموا أن تطبيق القواعد لا يتحقق إلا بعد حفظها كحفظ القرآن الكريم، قلت رداً على زعمهم: إن التطبيق لا يحتاج أبداً إلى الحفظ كحفظ القرآن الكريم، وإنهم إن حاولوا - بدلاً من حفظ القواعد - تطبيقها في قراءتهم وكتابتهم وحوارهم فهم يستطيعون - بعد قليل - أن يقرؤوا ويكتبوا ويتكلموا وفقاً للقواعد وإن كانوا لا يقدرون على تسميعها كما يسمّع القرآن الكريم في رمضان، ولكن المقصود - كما يعرف الجميع - هو تطبيق القواعد وليس حفظها.


وأما السبب الثالث في عدم قدرة الطلاب على اللغة العربية فهو - كما أعتقد - قلة تدريبهم أو بالأحرى عدم تدريبهم على الكتابة والنطق والسماع، فإن الطريقة السائدة لتعليم الإنشاء والتعبير في المدارس الدينية طريقة أصابها عقم إلى حد كبير، ولم تعد أبداً نافعة ومفيدة في حق الطلبة، وأما النطق والسماع فيعتمد كل منهما على برامج النادي العربي، ويزعم المسئولون عن النادي العربي أن البرامج المنعقدة تحته تساعد الطلاب على تعلم النطق والسماع، ولكنني أقول بغاية من الوضوح وبكامل الوعي والصواب: إنهم على خطأ كبير وغلط فاحش فيما يزعمون، فقد أثبتت التجارب أن برامج النادي العربي يمكن أن تكون مفيدة في تعلم السماع، غير أنها لا تنفع الطلاب في تعلم النطق إلا فيما ندر، فلقد رأيت كثيراً من الطلبة ممن حفظوا النصوص الأدبية من الشعر والنثر، وقدموها في برامج النادي العربي، ونالوا أيضاً جوائز عدة، ولكنهم لا يزالون غير قادرين على النطق والحوار حتي يومنا هذا.
 

فخلاصة الكلام أنني إن قلت لما عدوت الحق: إن نظامنا لتعليم اللغة العربية قد فسد كل الفساد، وبكلمة أخرى نستطيع أن نقول: إن الذين يتولون مسئولية تعليم اللغة العربية لم يدركوا بعدُ الكيفية المناسبة لتعليمها، ولا يزالون يقومون بتجارب مختلفة، بل يسيرون على نهج واحد منذ زمن بعيد، ويعبثون بمستقبل الطلاب الغير الناطقين بها، والدليل الأكبر على ما أقول هو مستوى الطلاب المتخرجين في المدارس الدينية كدار العلماء ندوة العلماء، ودار العلوم بديوبند، فإن معظمهم يتخرجون ومستواهم منخفض جداً في اللغة العربية، وذلك بعد أن أنفقوا فيها خمس سنوات على الأقل قرأوا خلالها عدداً من كتب الأدب بالإضافة إلى كتب الأحاديث النبوية الشريفة التي تعد أعلى نموذج للغة العربية بعد كتاب الله عز وجل. 


وبما أنني أيضاً من المتخرجين في إحدى المدارس الدينية، فلا أختلف منهم أبداً في هذا الشأن، ولعل هذه هي الأسباب في أنني واجهت مشاكل كثيرة في سبيل تعلم اللغة العربية، فحينما كنت في السنة الخامسة من الدراسات الثانوية شعرت بأنني لا أستطيع أن أكون قادراً على تعلم اللغة العربية إن اقتصرت على ما يدرسه المدرسون في الصف، فلجأت إلى معلم خصوصي يدعى (الأستاذ) "عبد المتين" الندوي حفظه الله، وقرأت على يده نحو ستين تمريناً خلال مدة سنتين، واستفدت منه كثيراً، ثم انتقلت إلى دار العلوم ندوة العلماء، فحاولت فيها أولاً أن أجد معلماً يقوم بتصحيح كتاباتي كما كان يفعله الأستاذ عبد المتين الندوي عمره الله طويلاً، فلم أقدر، ثم اتصلت ببعض الطالبين البارزين، ولكنهم لم يساعدوني كثيراً، فتسرب شيء من اليأس والقنوط إلى قلبي، ولكنني - على الرغم من ذلك - لم أستسلم، بل استمريت في تعلم هذه اللغة قدر استطاعتي، ثم أشار علي أحد الطلاب بالجلوس في حلقة دروس الدكتور نذير أحمد الندوي أطال الله بقاءه، وكان يدرس فيها الطلاب الجزء الأول من "القراءة الراشدة"، ويشير لهم إلى التعبيرات الجديدة والجملة الجميلة التي كانت ترد فيه، ويكلفهم بتكوين جمل من عندهم وفقاً لتلك الجمل والتعبيرات، فجلست فيها بضعة أيام تعلمت خلالها عدة أشياء جديدة أخص بالذكر منها طريقة قراءة كتب الأدب، ولكنني لم أجد فيها ما كنت أريده، ، فتركتها، وتحدثت مع الأستاذ الكريم، والتمست منه أن يقوم بتصحيح كتاباتي شخصياً، فرضي كل الرضا، ثم بقيت على ارتباط وثيق به، فشجعني، وزودني بنصائح ثمينة وتوجيهات قيمة، وفوق كل ذلك علمني أن أعتمد على نفسي في تعلم اللغة العربية، فكثيراً ما كان يقول لي: "اقرأ واقرأ واقرأ، فإن القراءة ليس لها بديل." فمنذ ذلك الحين أصبحت لا أعتمد في تعلم كلتا اللغتين العربية والإنجليزية إلا على نفسي ومحاولاتي بعد توفيق الله عز وجل، وتعلمت أشياء كثيرة بنفسي، وإن قلت لم يكن من المغالاة في شيء: إنني لقد تعلمت جزءاً كبيراً من اللغتين العربية والإنجليزية بمحاولاتي دون مساعدة أحد من البشر، بيد أني لا أنسى أبداً ما أداه أو يؤديه لي المعلمون وغيرهم من الزملاء من مساعدة ومعاونة في تعلمهما.


فخلاصة القول أن نظامنا لتعليم اللغة العربية قد وقع فريسة التعطل والجمود وبصفة خاصة في المدارس الدينية، وأصبح في أمس حاجة إلى إمعان النظر فيه. 
فلا بد للمسئولين أن يفكروا ويتدبروا فيه بكل من الجدية والرزانة، ويحاولوا لتطويره مع تطور الزمن وتحويله إلى نظام مفيد في حق جميع الطلبة، وذلك إن كانوا مخلصين في تأدية واجباتهم ومسئولياتهم، وإن هم ليسوا كذلك فليدعوا هذا النظام الفاسد يسير على ما يسير.





تعليقات

  1. ما شاء اللهالله يا اخي. .. ........ .صدقت و بررت و هذا السبب الذي احبك حبا اكثر من زملائي الآخرين بانك لا تقول الحق و الحقيقة ولا تخاف من لومة لائم ابداً.... ......كن بالدوام و لك مني السلام

    ردحذف

إرسال تعليق

Please do not enter any spam links in the comment box.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حیاتِ متنبی اور اُس کی شاعری

مساهمة توفيق الحكيم في تطوير المسرحية

أبيات بشار بن برد في الشورى والجد والمعاشرة