سنة كاملة على وفاة أخي
فبينا أنا في طريقي إلى غرفتي اتصلت بي أختي هاتفياً، فما إن تلقيت اتصالها الهاتفي حتى صاحت قائلة: "كم تنام؟ وعُد إلى المنزل فوراً; لأن"عرفان" قد انتقل إلى جوار ربه." فما إن مست كلماتها تلك آذاني حتى ذرفت عيني دمعة، وحاولت قدر وسعي أن أملك مدامعي ولكن دون جدوى وبلا فائدة، وبعد قليل أصبحت عيناي مخضلتين بالدموع، فإنني كنت أعرف جيداً أن نبأ وفاة أخي سيصلني فجأة; لأنه كان مصاباً منذ نحو سنتين بمرض الفشل الكلوي، ومجبراً على مداومة الغسيل الكلوي بمعدل مرتين أسبوعياً، والمصابون بهذا المرض لا يبقون على قيد الحياة لمدة طويلة من الزمن إلا في النادر القليل، ولكنني لم أكن أعتقد أن هذا الحادث سيحدث في حياتي بهذه السرعة.
وبعد ذلك وصلت إلى سوق "الشباب" بالقرب من ندوة العلماء، وتناولت كوبين من عصير المانجو; لا لأنني كنت أحتفل بوفاة أخي، بل لأنني كنت جوعان منذ ساعات، وأعرف جيداً أن السفر من لكناؤ إلى غوركفور لا يسهل لي أبداً في هذه الحالة الصعبة إن لم أكن أبقى قوي الجسم، ثم وصلت إلى "جار باغ" (لكناؤ) واكتريت سيارة بمساعدة زميل لي يدعى "يوسف بن مطيع الحق" ويعيش في لكناؤ، لأصل المنزل في أقرب وقت ممكن، وغادرت لكناؤ إلى غوركفور.
وكان سائق السيارة من أتباع الديانة الهندوسية، ومطلعاً على خبري، ولكنه - بالرغم من ذلك - كان يستمع إلى بعض الأغاني في صوت معتدل، ويحاول تعزيتي وتسليتي بكلماته متنوعة الموضوع حيناً بعد حين، وبعد قليل بدا أنه شعر بما كنت أشعر به في قلبي من هم وحزن، فامتنع عن الاستماع إلى الأغاني، وركز جميع عناياته على تسيير السيارة، وأما أنا فقد كنت أجلس بغاية من الهدوء والصمت، مسنداً رأسي إلى نافذة السيارة، ومفكراً فيما مضى من أيام حياتي التي أنفقتها مع أخي الراحل.
ولدنا معاً في بيت واحد، وبدأنا تعليمنا الابتدائي معاً على يد معلم خصوصي أحضرته لنا أمنا في المنزل، ثم ألحقتنا بمدرسة في البلدة اسمها "دار العلوم"، وكنا نغدو إليها ونروح منها معاً، ثم التحق أخي بمدرسة إنجليزية، وانقطعت إلى حفظ القرآن الكريم، ولكننا - رغم ذلك - كنا نشترك معاً في مباريات الكريكت أحياناً على سطح المنزل وأخرى في قطعة من أرضنا وراء المنزل، ثم أتممت حفظ القرآن الكريم، فوقع في روع أخي الأكبر أن يزود أخويّ الراحل والأصغر بحفظ القرآن الكريم، فانتقلنا نحن الإخوة الثلاثة إلى مدرسة في مدينة "غونده" تعرف باسم "الفرقانية" حيث أمضينا معاً أكثر من سنة، وخلال هذه المدة قمت بإعادة حفظ القرآن الكريم، وشرع أخي الراحل في حفظه، وأما أخي الأصغر فعاد بعد عدة أشهر; لأنه كان صغيراً جداً.
ثم انتقلت إلى مدينة لكناؤ، وانتظمت في معهد دار العلوم ندوة العلماء لتلقي دروسي الثانوية، وهكذا قدر لنا للأبد أن نعيش حياتنا في بلدتين مختلفتين، ثم مضت الأيام تتلوها الأيام حتى انتهيت من الدراسات العالية بكلية الدعوة والإعلام في دار العلوم ندوة العلماء لكناؤ، ودخلت في جامعة لكناؤ، وانضم أخي إلى قائمة الحفاظ، ثم استأنف دراسته الإنجليزية حتى وصل إلى تعليمه الجامعي.
من الجدير بالذكر هنا أننا ولدنا معاً ومن بطن أم واحدة، ولكنني كنت قوي الجسد منذ ولادتي، وأما هو فقد كان نحيف الجسم، ومصاباً بقصر النظر منذ نعومة أظفاره حتى اضطر مرات في حياته إلى علاج عينيه وإجراء عملية جراحية فيهما، وذلك بالإضافة إلى أمراض عادية خفيفة كانت تصيبه حيناً لآخر، وقد اضطر كذلك مرة في حياته إلى قطع إحدى رجليه جرّاء خطأ الطبيب في علاجها، وذلك خلال دراسته في مدرسة "الفرقانية" بمدينة "غونده"، ولكن الله عز وجل حفظه من هذا البلاء العظيم.
ولكن هذا المرض الأخير (مرض الفشل الكلوي) لم يصبه حتى أرسله إلى قبره، ومما تجدر الإشارة إليه أن علامات هذا المرض لم تظهر عليه إلا بعد أن دخل المرض في مرحلته النهائية، فإنه - كما ذكرت لك من قبل - كان نحيف الجسم، فأراد أن يكون قويه، وبدأ تناول الموز مع اللبن، ففي يوم من الأيام شم رائحة خبيثة تخرج من فمه، فراجع الطبيب بمفرده، فأجريت له فحوص طبية، ولما حان موعد تسلم التقرير الطبي ذهب وحيداً إلى الطبيب، ولكنه رفض تسليم التقرير إليه، وطلب منه أن يحضر معه فرداً كبيراً من أفراد الأسرة.
ثم ما ورد في التقرير كان محيراً لعقول الجميع، ولكنهم لم يقنطوا من رحمة الله، وقاموا بالكثير من الخدمات والتضحيات البدنية والمالية في فترة علاجه الممتدة إلى قرابة سنتين، باستثناء فرد منهم هو أنا، فإنني لم أستطع أن أنضم إليهم، وأقدم له أي خدمة تستحق الذكر; لأنني عشت حياتي كلها طوال هذه المدة في لكناؤ لكوني مشتغلاً بالدراسة، ولكن صح وأصاب من قال: "المرء يدبر، والله يقدر." فقد باءت هذه الجهود والمحاولات بأكملها بالفشل والخيبة، وصار أخي إلى موضع أربع أذرع في المقبرة.
وإن كنت تظن أنه كان طريح الفراش في أثناء هذه المدة المديدة فإنك على خطأ كبير وغلط فاحش; لأنه كان يتمتع بحيوية مرحة ونشاط عجيب، ويواصل دراساته العليا بالرغم من إصابته بهذا الداء العضال، وقد دخل في السنة الثالثة من بكالوريوس التجارة، وكانت دراسته هذه دراسة إضافية، فإنه كان يريد أن يصبح محاسباً قانونياً في مستقبل أيامه، ويبذل قصارى جهوده في سبيل تحقيق أمانيه ومطالبه، وقد توصل من هذه الدراسة إلى مرحلة تلقي التدريبات.
وبالإضافة إلى ذلك كان يعلم عدداً من طلاب نفس الدراسة في المنزل ليكسب النبوغ والبراعة فيها حتى ألقى عليهم بعض الدرس في ليلته الأخيرة في هذه الدنيا، ووعدهم بإكمال بقيته في الليلة التالية، ولكن لعله لم يكن يعرف أنه سيمضي ليلته التالية في قبره، ففي صبيحة اليوم التالي ذهب إلى المستشفى بصحبة أخي الأصغر للغسيل الكلوي وهو يمشي على قدميه، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة فور انتهائه من الغسيل، بعيداً عن أحبائه وأقاربه بما فيهم أمنا الحنون.
ثم ما ورد في التقرير كان محيراً لعقول الجميع، ولكنهم لم يقنطوا من رحمة الله، وقاموا بالكثير من الخدمات والتضحيات البدنية والمالية في فترة علاجه الممتدة إلى قرابة سنتين، باستثناء فرد منهم هو أنا، فإنني لم أستطع أن أنضم إليهم، وأقدم له أي خدمة تستحق الذكر; لأنني عشت حياتي كلها طوال هذه المدة في لكناؤ لكوني مشتغلاً بالدراسة، ولكن صح وأصاب من قال: "المرء يدبر، والله يقدر." فقد باءت هذه الجهود والمحاولات بأكملها بالفشل والخيبة، وصار أخي إلى موضع أربع أذرع في المقبرة.
وإن كنت تظن أنه كان طريح الفراش في أثناء هذه المدة المديدة فإنك على خطأ كبير وغلط فاحش; لأنه كان يتمتع بحيوية مرحة ونشاط عجيب، ويواصل دراساته العليا بالرغم من إصابته بهذا الداء العضال، وقد دخل في السنة الثالثة من بكالوريوس التجارة، وكانت دراسته هذه دراسة إضافية، فإنه كان يريد أن يصبح محاسباً قانونياً في مستقبل أيامه، ويبذل قصارى جهوده في سبيل تحقيق أمانيه ومطالبه، وقد توصل من هذه الدراسة إلى مرحلة تلقي التدريبات.
وبالإضافة إلى ذلك كان يعلم عدداً من طلاب نفس الدراسة في المنزل ليكسب النبوغ والبراعة فيها حتى ألقى عليهم بعض الدرس في ليلته الأخيرة في هذه الدنيا، ووعدهم بإكمال بقيته في الليلة التالية، ولكن لعله لم يكن يعرف أنه سيمضي ليلته التالية في قبره، ففي صبيحة اليوم التالي ذهب إلى المستشفى بصحبة أخي الأصغر للغسيل الكلوي وهو يمشي على قدميه، وهناك لفظ أنفاسه الأخيرة فور انتهائه من الغسيل، بعيداً عن أحبائه وأقاربه بما فيهم أمنا الحنون.
هذا، وفي جانب آخر حينما وصلت إلى المسجد الواقع قرب منزلي كان الجميع في انتظاري، وقد آن أوان صلاة الجنازة، فما إن نزلت من السيارة حتى أحدق بي عدد من الحاضرين، ثم وصلني ابن عمتي، وأخذني معه إلى منزلي، فما إن دخلت الغرفة حتى وجدت أخي الراحل الذي كان يلقاني دائماً لدى وصولي إلى المنزل وهو يبتسم ابتسامة باطنية رقيقة، مكفناً في كفنه، فألقيت نظرة عابرة أخيرة على وجهه الجامد كتمثال، ثم ما لبثت أن خرجت من الغرفة بسرعة مذهلة، وذلك لأن الغرفة كانت تموج وتكتظ بالحاضرين، ولعلهم كانوا ينتظرون مني أن أجهش بالبكاء على جنازته، وأذرف دموعي على مرأى ومسمع منهم، ولكنني كنت قد أصبحت ذلك الحين كالحجارة أو أشد قسوة.
ثم وصلت إلى المسجد، وأديت العشاء، وكانوا في أثناء ذلك قد حملوا الجنازة إلى المسجد، فطلب مني إمامه الذي قرأت أنا وأخي الراحل على يديه مدة، أن أقوم بإمامتهم في صلاة الجنازة، ولكنني آثرته على نفسي، وقدمته للإمامة لكونه واحداً من أساتذتنا، وبكوني في حالة لا يمكنني فيها أن أصلي بالناس، ثم ألقى أستاذنا كلمات عديدة في الثناء على أخي الراحل، وذكر للحاضرين بعض محاسنه.
ثم حدث لي أخوف ما كنت أخافه في حياتي، وأفكر في أنني كيف سأودع حفرة القبر أحد أفراد عائلتي بيدي هاتين، ولكنني فعلت، فعلت ما كنت أخافه، ودفنت جسده في الأرض بيدي هاتين; لأنني كنت مجبراً، وما كان أمامي خيار آخر سوى أن أواري جثته التراب، وأما الآن فقد مضت على وفاته سنة كاملة، وعادت حياتنا بصورة تدريجية إلى حالتها الطبيعية، بيد أن ألم فراقه لا يزال حياً في قلوبنا، وسيبقى كذلك - كما أرى - حتى نصير نحن أيضاً إلى قبورنا.
حادث لم يكن يستحق أن يحدث
جمعية النادي العربي
ثم حدث لي أخوف ما كنت أخافه في حياتي، وأفكر في أنني كيف سأودع حفرة القبر أحد أفراد عائلتي بيدي هاتين، ولكنني فعلت، فعلت ما كنت أخافه، ودفنت جسده في الأرض بيدي هاتين; لأنني كنت مجبراً، وما كان أمامي خيار آخر سوى أن أواري جثته التراب، وأما الآن فقد مضت على وفاته سنة كاملة، وعادت حياتنا بصورة تدريجية إلى حالتها الطبيعية، بيد أن ألم فراقه لا يزال حياً في قلوبنا، وسيبقى كذلك - كما أرى - حتى نصير نحن أيضاً إلى قبورنا.
حادث لم يكن يستحق أن يحدث
جمعية النادي العربي
😢😢😢
ردحذف