زهير بن أبي سلمى، حياته وشاعريته

التعارف:

زُهير بن أبي سُلمى هو أحد كبار الشعراء في العصر الجاهلي، كما أنه أحد الشعراء الثلاثة الذين قدمهم النقاد على كافة شعراء العرب، وهم: امرؤ القيس، وزُهير بن أبي سُلْمى، والنابغة الذبياني، وقد اختلف النقاد أيّهم ظهر قبل صاحبيه، ولكنهم لم يختلفوا في الثلاثة، وكان زهير شاعراً فذاً شهد له بذلك الكثيرون، وعَدّه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشعر الشعراء، فقد قال ابن عباس رضي الله عنه: "خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في أول غزاة غزاها فقال لي: "أنشدني لشاعر الشعراء." قلت: "ومن هو يا أمير المؤمنين؟" قال: "ابن أبي سلمى." قلت: "وبم صار كذلك؟" قال: "لأنه لا يتبع حوشي الكلام، ولا يعاظل في المنطق، ولا يقول إلا ما يعرف، ولا يمتدح أحداً إلا بما فيه."

ولادته:

ولد زهير بن أبي سلمى ربيعة بن رباح في الحاجر من أرض نجد حول المدينة المنورة، وأما سنة ولادته فلم يستطع المؤرخون تحديدها، إلا أنهم يرجحون أنه ولد عام ٥٢٠ م أو عام ٥٣٠ م كما ذكر حنا الفاخوري في كتابه "تاریخ الأدب العربي"، مستندين في ذلك إلى تاريخ نظمه لمعلقته التي أنشأها في مديح سيدين من بني مرة بعد انتهاء حرب داحس والغبراء والتي ترجح الروايات أنّها انتهت بين عامي ٦٠٨ – ٦١٠ م، وقد كان عمر زهير آنذاك ثمانين عاماً بدليل قوله في معلقته:

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم

نشأته:

ونشأ زهير في أقارب أبيه من بني غطفان، والسبب في ذلك يرجع إلى أن ربيعة أبي الشاعر قد ترك قومه، وأتى غطفان، وتزوج أم عمرو في قومها، وكانت تربطه بهم قرابة، فكان له منها زهير، وكان في غطفان رجل مقعد عقيم حكيم قد اشتهر بسداد الرأي وجودة الشعر ووفرة المال، هو بشامة بن الغدير الشاعر خال ربيعة والد زهير، فلزمه زهير، فاغترف من شعره، وتأثر بعلمه وحكمه، وأخذ عنه الرصانة والرغبة في إصلاح مجتمعه القبلي، ثم تتلمذ لزوج أمه أوس بن حجر زعيم المدرسة المضرية التي تنسب إليه، فاتخذ طريقته في الشعر.

زواجه:

وأقام زهير في غطفان، وتزوج فيهم مرتين على الأقل، ففي المرة الأولى تزوج من ابنة خاله بشامة الشاعر أُم أوفى، فولدت له أولاداً ماتوا كلهم وهم صغار السن، فتزوج عليها بكبشة بنت عمار الغطفانية، فغارت منها أُم أوفى، ودفعتها غيرتها إلى إيذاء زهير، فطلقها وهو محبٌ لها، وقد ذكرها كثيراً في شعره، وأنجبت له كبشة ثلاثة أبنائهم: كعب، وبجير، وسالم، ومات سالم في حياة أبيه حيث سقط عن فرسه، ودقت عنقه، وقد حزن عليه زهير حزناً شديداً، وكان بجير من أوائل من دخل الإسلام، وأما كعب فهو الصحابي الذي نظم قصيدة البردة الشهيرة والمعروفة في الشرق بمطلع "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول"، وألقاها في حضرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما دخل الإسلام. 

شاعر هرم بن سنان:

انقطع زهير لسيد شريف اسمه هرم بن سنان، لما عرف من كرمه واشتهر عنه من حب الخير والسلام، فلما مشى هو والحارث بن عوف بالصلح بين قبيلتي عبس وذبيان، وأطفآ نار حرب السباق باحتمالهما ديات القتلى عن الحيين، وقد بلغت ثلاثة آلاف بعير، استفزته هذه الأريحية، فمدحهما بمعلقته، ثم تابع مدحه لهرم بن سنان، وأطنب في ذلك حتى أولع هرم بشعره، فأغدق عليه العطايا، وأقسم ألا يمدحه زهير ولا يسأله ولا يسلم عليه إلا أعطاه عبداً أو وليدة أو فرساً، فاستحيا زهير من كثرة ما كان يقبل منه، وأصبح إذا رآه في ملأ من الناس قال: "عِمُوا صباحاً إلا هرماً، وخيركم استثنيت." وكان من ذلك أن زهيراً عاش في الجاهلية "سيداً كثير المال حليماً معروفاً بالورع". 
وفي مناسبة قال عمر بن الخطاب لبعض أولاد هرم: "أنشدني بعض مدائح زهير في أبيك." فأنشده، فقال عمر: إنه كان ليحسن فيكم القول." فقال: "والله ونحن كنا نحسن له العطاء." فقال عمر: "قد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم."

رجل التعقل والرصانة:

كان زهير بن أبي سلمى رجل العقل إذ جعل للعقل المحل الأول في حياته وفي شعره، فجرى على سننه في التفكير والقول والعمل، ونقح شعره وثقفه بروية ورصانة، وقرب الحقائق إلى الأفهام يجعلها مادية ملموسة، وذلك بأسلوب خطابي حاول فيه الإقناع، ثم تحرى الوضوح والإيجاز والمتانة، وكان كلامه بسبب سيطرة العقل لا يخلو من جمود.

زهير شاعر الإصلاح:

١ – المدح:
كان مدحه شكراً وتشجيعاً، وكانت معاني مدحه الصفات البدوية الشريفة التي يحبها البدوي الحر، وامتاز مدحه بالصدق، وقد جرى فيه الشاعر على الأسلوب التقليدي القديم الذي لا يخلو من قصص.
٢ – الهجاء:
يتصف بالرصانة، ويرمي إلى إصلاح السيرة والنفس فيدخل مع المهجوين في جدل منطقي، وقد يتخذ أحياناً لهجة لاذعة عنيفة.

زهير شاعر الحكمة:

١ – مصدر حكمته: هي وليدة الزمن والاختيار.
٢ – موضوعها: يمثل زهير فئة المؤمنين بالحياة الأخرى، المتمسكين بالفضيلة الشخصية والاجتماعية من وفاء وقناعة وإقدام، ومصانعة وبذل.
٣ – قيمتها: واسعة النطاق، قليلة الحياة، ساذجة في أكثرها.

زهير شاعر الوصف:

١ – نزعته الفنية: نزعة أوسية في هدوء واطمئنان.
٢ – الدقة: تحديد المكان والزمان، وذكر الجزئيات ودقائق الأحوال.
٣ – التجسيم: تجسيم الماديات والمعنويات متذرعاً بالتشبيه المادي، وقد يتحول تشبيهه إلى استدارات طويلة.
٤ – الحياة: تتجلى بالحركة والقصص.

ديوانه:

لزهير ديوان مملوء بمدح الأشراف من غطفان، وبمدح هرم بن سنان وقومه، والحارث بن عوف، وفيه الغزل والهجاء والفخر وذلك قليل، وطي ذلك كثير من الوصف والحكم.

معلقته:

وأما المعلقة فهي ميمية على البحر الطويل يبلغ عدد أبياتها ٦٤، وقد ترجمت إلى لغات عدة منها اللاتينية والفرنسية والإنجليزية، وهي من أكثر الشعر القديم ترتيباً يكاد يكون منطقياً في مدحه هرم بن سنان والحارث بن عوف، ثم في نصيحته المتصالحين ووصف الحرب والاعتذار عن أهل القاتل، وإليك بعض المعلومات عنها:
١ – الباعث على نظمها:
نظمت المعلقة على أثر انتهاء الحرب بين عبس وذبيان، والغرض منها مدح المصلحين، وأكثر من ذلك الموعظة للكف عن الأحقاد والرجوع من سفك الدماء.
٢ – أقسامها:
تقسم المعلقة إلى قسمين كبيرين:
١ – قسم غزلي يصف فيه الشاعر الأطلال والرحيل. (١ – ١٥) 
٢ – قسم إصلاحي: 
١ – مدح المصلحين، وقص كيفية عقدهما الصلح. (١٦ – ٢٥)

٢ – نصائح المتصالحين ختمها الشاعر بوصف الحرب وتحذير "عبس" منها. (٢٦ – ٣٥)
٣ – اعتذار عن ذبيان، وذكر قصة حسين بن ضمضم. (٣٦ – ٤٧)
٤ – طائفة من الحكم والأمثال العامة. (٤٨ – ٦٤)

موضوع معلقته:

موضوع معلقته كما علمت مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريين على سعيهما بالصلح بين عبس وذبيان، ولكنه افتتحها على عادة الجاهلين بالوقوف على أطلال الأحبة وتحيتها ونعتها وتنسم الذكريات من خلال آثارها.

أمن أم أوفى دمنة لم تكلم

بحومانة الدراج فالمتثلم

ودار لها بالرقمتين كأنها

مراجع وشم فِي نواشر معصم

بكرن بكوراً واستحرن بسحرة

فهن كوادي الرس كاليد للفم

جعلن القنان عن يمين وحزنه

وكم بالقنان من محل ومحرم

ثم انتقل على طريقة الاقتضاب إلى الرجلين اللذين حقنا بالصلح دماء العشيرة.

يميناً لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم

تداركتما عبساً وذبيان بعدما

تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم

ثم قطع المدح مؤقتاً ليدعو الخصوم إلى السلم في لين ورفق، ولكنه ذكر الحرب فاشتد وأنكر ما تجر على الناس من أوزار وأضرار.

ألا أبلغ الأحلاف عني رسالة

وذبيان هل أقسمتم كل مقسم

فلا تكتمن الله ما في صدوركم

ليخفى ومهما يكتم الله يعلم

يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر

ليوم حساب أو يعجل فينقم

ثم عاد إلى رجُليه فمضى في مدحهما على ما رأبا من صدع لم يحدثاه، ووصف هم بن ضمضم بالجناية وعزمه عليها.
ثم غلبت عليه نزعته الإنسانية وطبيعته الفلسفية فوقف موقف الحكيم يتبرم بالحياة ويفكر في الموت ويعظ بالتجارب.

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم

ومن هاب أسباب المنايا ينلنه 

ولو نال أسباب السماء بسلم 

شاعريته:

بيت زهير عريق في الشاعرية: فأبوه وخاله، وأختاه سلمى والخنساء، وولداه كعب وبجير، من الشعراء المذكورين، وذلك ما لم يكن لغيره، وهو كما ذكرت أحد الثلاثة الفحول، وفي الناس من يفضله على امرئ القيس والنابغة، لأن شعره يمتاز بصدق اللهجة، وخلوه من الحوشي والتعقيد، وبعده عن سخف القول وهجر الحديث، وجمعه الكثير من المعاني في قليل من الألفاظ، وهو واحد من الشعراء في إجادة المدح وضرب المثل، وإرسال الحكمة، وزهير من عبيد الشعر الذين تعملوه ونقحوه، وله قصائد تعرف بالحوليات يزعمون أنه كان ينظمها في أربعة أشهر، ويهذبها في أربعة، ثم يعرضها على خاصة الشعراء في أربعة، فلا ينشدها الناسَ إلا بعد حول.

خصائص شعره والحكمة فيه:

وكان زهير بن أبي سلمى من أوائل رواد مدرسة الشعر الحولي المُنقّح، تلك المدرسة الشعرية التي أسسها أوس بن حجر الذي كان زهير راوية لشعره، وقد امتازت هذه المدرسة بوصف المرئيات والمحسوسات بشكل دقيق وواضح، كما اعتنى شعراؤها بشعرهم عناية فائقة، من حيث التنقيح والتهذيب والمراجعة مرة تلو أخرى، ويُقال إنّ زهيراً كان ينظم قصيدته في أربعة أشهر، وتمكث عنده حولاً كاملاً ولا يذيعها بين الناس حتى تطمئن نفسه إلى جودتها، وقد سار ولداه كعب، وبجير، وراويته الحطيئة، والنابغة على نهجه في هذا المذهب، وفيما يأتي أهمّ سمات وخصائص شعر زهير بن أبي سُلمى:
١ - أول ما يلفت النظر في شعر زهير الحكمة الصادقة، فشعره يفيض بالحكم الرائعة التي هي استخلاص تجارب عاشها الشاعر، وما شهده من صروف الدهر وتقلباته، لذلك عُدَّ زهير من شعراء الحكمة في العصر الجاهلي. 
٢ - ومن ناحية الألفاظ فقد كان زهيراً شديد الاهتمام باختيار الألفاظ، فتارة تأتي ألفاظه سهلة وتارة أخرى جزلة وقوية. 
٣ - ومن ناحية الأسلوب فقد امتاز شعر زهير بالبساطة والبعد عن التكلف والتصنع، وتكثر في شعره الصور الفنية مثل: الاستعارة، والتشبيه، والكناية، والطباق، فتزين هذه الصور شعره بشكل عفوي ودون قصد، إذ تأتي من ذوق الشاعر وموهبته.
٤ - وامتاز شعر زهير بصدق المعاني والبعد عن المبالغة وإذا اقتضى الحال بعض المبالغة، فإنّه يختار طريق المبالغة المقبولة. 

وفاته:

ويعد زهير بن أبي سلمى من أحد المعمِّرين في العصر الجاهلي، فقد قارب عمره المئة حسب المؤرخين، وأما سنة وفاته فقد تعددت الأقوال فيها، فمن المؤرخين من قال أنَّه توفي سنة ٦٠٧ م، ومنهم من قال أنَّه توفي عام ٦٠٩ م، بينما كتب بعض المؤرخين أن سنة وفاته هي ٦١١ م، ويرى بعض الرواة أنه مات ٦٣١ م، بيد أن رجح حنا الفاخوري في كتابه "تاریخ الأدب العربي" أنه توفي سنة ٦٢٧ م. 
ورأى قبيل وفاته في المنام أن هناك من أتاه وصعد به إلى السماء، فلما كاد أن يلمسها هبط إلى الأرض، فلما صار على فراش الموت قص المنام على أولاده مفسرًا إياه بأن رسولًا من السماء سيأتي وأوصى أولاده بأن يتبعوه وأن يؤمنوا بما سيأتي به، فلما أتي النبي محمد صلى الله عليه وسلم أسلم أبناؤه.

دينه وأخلاقه: 

وعلى الرغم من أنّ زهيراً بن أبي سُلمى لم يعاصر الإسلام، إذ توفي قبل بعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنحو عامٍ إلّا أنّه كان يتحلى بأخلاق الإسلام، فقد كان صادقاً وفياً، ومسالماً محباً للآخرين، ومبتعداً عن الفواحش والمنكرات، كما كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فقد صنع لنفسه معتقداً بعيداً كل البعد عن معتقدات الجاهلية، وقد ظهرت هذه النزعة الدينية في شعره بشكل واضح وجلي، كما في قوله:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم

يميناً لنعم السيدان وجدتما

على كل حال من سحيل ومبرم

لقد كان شعر زهير صورة لحياته ومرآة لنفسه، فهو شاعر الخير الذي يدعو إلى السلم وإلى مكارم الأخلاق، كما أنّه يرسم المُثل التي كان يتحلى بها فيمن يمدحهم، وهو لم يمدح أحداً قط إلّا إذا كان أهلاً لذلك، وقد خلد التاريخ الذين مدحهم زهير في شعره، وذلك لما عُرِف عنه من صدق وبعد عن التملق.

المصادر والمراجع:

تاريخ الأدب العربي لحنا الفاخوري.
تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيات.
بحث عن زهير بن أبي سلمى. (جوجل)
نبذة عن حياة زهير بن أبي سلمى. (جوجل)
زهير بن أبي سلمى، ويكيبيديا. (جوجل)
زهير بن أبي سلمى، المعرفة (جوجل)

قصيدة حافظ إبراهيم عن لسان حال اللغة العربية