قصيدة حافظ إبراهيم عن لسان حال اللغة العربية
إن هذه القصيدة التي ضمها محمد شريف سليم (رحمه الله) إلى كتابه "مجموعة من النظم للحفظ والتسميع"، قالها محمد حافظ بن إبراهيم المعروف بحافظ إبراهيم، وشاعر النيل، وشاعر الشعب لتعبيره عن مشاكل الشعب والطبقات الفقيرة في أشعاره.
وهذه القصيدة واحدة من أشهر قصائده، وهي من القصائد العمودية المنتمية إلى البحر الطويل في الشعر، وتتكون من ثلاثة وعشرين بيتاً نظمها على لسان حال اللغة العربية ويتكلم فيها في واحدة من أحرج الفترات الزمنية التي مرت على العالم العربي إبان الاستعمار والانتداب على المنطقة العربية الذي أثر تأثيراً بالغاً في اللغة العربية وتعلق أبنائها بها وعزوفهم عنها في حالات أخرى خاصةً بعد المناداة بكتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية واعتمادها على اللغة اللاتينية لغةً رسميةً للتعليم في مصر.
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
فتقول اللغة العربية في البيت الأول من القصيدة: "حينما بدأ الكتاب يدعون إلى اللغة العامية وتطرق الفساد إلى الألسن تأملت نفسي وبحثت عن أسباب القصور في نفسي فاتهمت عقلي بالقصور، ثم ناديت قومي ممن يتكلمون هذه اللغة، وحين لم يجب أحد منهم على ندائي احتسبت حياتي وعددتها فيما يحتسب عند الله وجعلتها لخدمة الأمة ابتغاء مرضات الله."
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وفي البيت الثاني تقول اللغة العربية: "إن الناس اتهموني ظلماً بالعقم والتحجر والجمود وعدم قدرتي على التعبير عن متطلبات العصر مع أنني لا أزال في مقتبل الشباب وأتمتع من الفصاحة والبلاغة بما لا تتمتع به أخواتي، فتمنيت لو أنني كنت كذلك فلم أكن أتأثر من قول أعدائي وأتحمل ما يقولونه."
ولدت ولما لم أجد لعرائسي
رجالاً وأكفاء وأدت بناتي
تقول اللغة العربية في البيت الثالث دفاعاً عن نفسها: "أنا لغة معطاءة، وأقدر على الإنجاب، فأنا أمتلك ثروة ضخمة من الألفاظ، ولكنني عندما لم أجد الكفء المناسب الذي يحفظ أسراري ويظهر جمالي ويحسن استخدامي دفنتها وهي حية."
وسعت كتاب الله لفظاً وغاية
وما ضقت عن آي به وعظات
وفي البيت الرابع تقول اللغة العربية: "إنني لست لغة عاجزة كما يعتقد الناس، والدليل على ما أقوله، أنني وسعت كتاب الله واحتويت جميع أحكامه وشرائعه، ولم أعجز عن وصف بينة أو موعظة أو هدف من أهداف القرآن الكريم."
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة
وتنسيق أسماء لمخترعات؟
ثم تضيف اللغة العربية قائلة في البيت الخامس: "إنني لم أعجز عن وصف ما يحتويه كتاب الله فكيف أعجز عن وصف ما قام بصنعه المخلوقون، أو تكوين أسماء لمخترعات معدودة لا تساوي شيئاً أمام ما يشتمل عليه القرآن الكريم؟"
أنا البحر في أحشائه الدر كامن
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
تستمر اللغة العربية في الدفاع عن نفسها رادة على كل أعدائها، فتقول في البيت السادس وهي تفتخر: "أنا البحر الواسع الشاسع الذي يتوارى الدر الثمين في أعماقه." ثم توجه السؤال إلى الناس بقولها: "هل سألوا الغواص عن صدفاتي؟" وتحثهم على استخراجها والاستعانة بمن تعمقوا في اللغة العربية ودرسوا أسرارها.
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني
ومنكم وإن عز الدواء أساتي؟
وفي البيت السابع تخاطب اللغة العربية أبناءها والناطقين بها مترحمة على نفسها، فتقول: "رحمة لكم! إن مواضع جمالي ومحاسني تبلى وتفنى شيئاً فشيئاً فهل فيكم من يستطيع أن يعيد إلي جمالي وحسني على الرغم من أن الدواء لا يمكن إيجاده إلا في النادر القليل؟"
فلا تكلوني للزمان فإنني
أخاف عليكم أن تحين وفاتي
وفي البيت الثامن تستغيث اللغة العربية وتستنجد بأبنائها والناطقين بها، وتحذرهم طالبة منهم وقائلة: "لا تتركوني للزمان يعبث بي كما أراد، ولا تدعوني للأعداء يتصرفون بي كما شاءوا، فإنني أخشى عليكم أن تحل وفاتي فأختفي وأفنى فتصبحوا بلا هوية وبدون لغة، ثم تختفوا وتفنوا مثلي; لأن بقاءكم يعتمد إلى حد كبير على بقائي، فإن حانت وفاتي ستحين وفاتكم لا محالة."
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعة
وكم عز أقوام بعز لغات
تواصل اللغة العربية تحذيرها لأبنائها والناطقين بها، فتقول في البيت التاسع: "إني أرى أبناء الغرب في عزة وقوة ومنعة ورفعة، وذلك لأنهم يتمسكون بلغتهم ويعتزون بها، وكذلك قد تمتع - فيما مضى من الأيام - أمم كثيرة بكل من العزة والقوة والمنعة والرفعة; لأنها كانت متمسكة بلغتها ومعتزة بها."
أتوا أهلهم بالمعجزات تفنناً
فيا ليتكم تأتون بالكلمات!
وفي البيت العاشر تثني اللغة العربية على رجال الغرب، فتقول: "إن أبناء الغرب قد حققوا من خلال لغتهم المعجزات وقدموا ألواناً وأنواعاً من التقدم والتطور في كل ميدان من ميادين الحياة الفردية والجماعية، وأنتم يا أبنائي! قد عجزتم عن تكوين مسميات للمخترعات العديدة، ولم تتمكنوا حتى بالإتيان بالألفاظ الصحيحة."
أيطربكم من جانب الغرب ناعب
ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟
وفي البيت الحادي عشر توجه اللغة العربية السؤال إلى أبنائها مستنكرة منهم إعجابهم بصوت غراب الغرب، فتقول: "أتطربون وتفرحون بما يصل إلى آذانكم من جانب الغرب من الأصوات التي تنادي بدفني حية وأنا في ربيع حياتي؟"
ولو تزجرون الطير يوماً علمتم
بما تحته من عثرة وشتات
ثم تخاطب اللغة العربية في البيت الثاني عشر أبناءها والناطقين بها، فتقول: "إن كنتم فرحين ومسرورين بما يقوله أهل الغرب من وأدي، فاعلموا جيداً بأنكم لو تطيرون الطير في يوم من الأيام - كما كان العرب يفعلون في الجاهلية - سيبرز لكم جلياً أن صوت رجال الغرب الذي ينادي بوأدي في ربيع حياتي، يحمل في طيه السقوط والزلة والتفرق."
سقى الله في بطن الجزيرة أعظماً
يعز عليها أن تلين قناتي
وفي البيت الثالث عشر تدعو اللغة العربية بالخير لأبنائها والناطقين بها ممن كانوا ينتمون إلى جزيرة العرب، ويتمسكون باللغة العربية ويعتزون بها، وقد صاروا الآن إلى قبورهم وتحولوا إلى أعظم، وكان يصعب ويشق عليهم أن أكون ضعيفة ومنحلة.
حفظن ودادي في البلى وحفظته
لهن بقلب دائم الحسرات
وفي البيت الرابع عشر تذكرهم اللغة العربية بالخير وتثني عليهم بما هم أهله، فتقول: "إنهم حفظوا محبتي في كل حال من الأحوال، ولم يجعلوها نسياً منسياً لا في السراء ولا في الضراء، ففي مقابل ذلك حفظت أنا أيضاً حبهم ولم أنبذه ورائي ظهرياً، ولا أزال أذكرهم بفؤاد مستمر الحزن والتلهف."
وفاخرت أهل الغرب والشرق مطرق
حياء، بتلك الأعظم النخرات
ثم تواصل اللغة العربية ثناءها عليهم في البيت الخامس عشر، فتقول: "لقد نافست الغربيين وفاخرتهم بتلك العظام البالية التي كانت تتمسك وتعتز بي، والشرقيون مطرقون رؤوسهم حياء وخجلاً; لأنهم استهانوا بي ولم يقدروني حق قدري."
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً
من القبر يدنيني بغير أناة
وفي البيت السادس عشر تعرض اللغة العربية ما تواجهه من الأخطار التي تسبب ضعفها وانحلالها، فتقول: "أجد كل يوم الصحف والجرائد زاخرة وحافلة بالزلات والعثرات والأخطاء التي تقربني من النهاية بلا تمهل."
وأسمع للكتاب في مصر ضجة
فأعلم أن الصائحين نعاتي
وفي البيت السابع عشر تواصل اللغة العربية عرض ما يدبر ضدها من مكائد في مصر، فتقول: "إني أسمع صيحة الكتاب وضجتهم في مصر وهم يدعون الناس إلى اختيار اللغة العامية، فيظهر لي أن هؤلاء الكتاب الذين يقومون بهذا العمل غير المناسب، سيعلنون وفاتي ونهايتي."
أيهجرني قومي عفا الله عنهم
إلى لغة لم تتصل برواة
وفي البيت الثامن عشر تعرب اللغة العربية عن استعجابها من أبنائها الذين يريدون هجرها واختيار غيرها من اللغات، وتدعو الله لهم بالعفو عنهم، فتقول بلسان الأم الحنون: "أيتركني أبنائي ويختارون لغة جديدة ركيكة لا يوجد لها أصل، ولا تقارن باللغة العربية؟"
سرت لوثة الأعجام فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
وفي البيت التاسع عشر يصف الشاعر اللغة العامية بأنها ضعيفة في البيان وسيئة في التعبير وخليط ضعيف من اللغات المختلفة قد نفث الإفرنج فيها سمومهم كما يلوث سم الأفاعي الماء العذب.
فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة
مشكلة الألوان مختلفات
وفي البيت العشرين يشبه الشاعر اللغة العامية بثوب ضم كثيراً من الرقع المختلفة مشكلة الألوان، فإن العرب يستخدمون عامة كلمة "سبعين" للدلالة على الكثرة، وقد شبه الشاعر اللغة العامية بثوب مرقوع لكونها من اللغات الأخرى المختلفة.
إلى معشر الكتاب والجمع حافل
بسطت رجائي بعد بسط شكاتي
وفي البيت الحادي عشر توجه اللغة العربية النداء إلى معشر الكتاب الذين ينتمون إلى مجمع اللغة العربية، فتقول: "أوجه رجائي الآن إلى جماعة الكتاب بعد أن قدمت شكواي إليهم وأوضحت لهم الخطر المحدق بي."
فإما حياة تبعث الميت في البلى
وتنبت في تلك الرموس رفاتي
وإما ممات لا قيامة بعده
ممات لعمري لم يقس بممات
وفي البيتين الأخيرين من القصيدة تحذر اللغة العربية الكتاب في مصر، فتقول: "إما أن تعودوا إلى رشدكم وتتراجعوا عن دعوتكم وتهتموا بلغتكم فتحيا من جديد كما ينبت النبات ويحيا، وإما تستمروا في غيكم فيكون مصيري الفناء والموت وأي موت .. موت لا يكون للعرب ولا لأبناء العربية قيام بعده."
تعليقات
إرسال تعليق
Please do not enter any spam links in the comment box.